تحقيق العبودية للخالق الرازق محمد نافع ولد المخطار ولد اكه

مقاربة جديدة لفهم وإعمال قول الله عز وجل :

﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ (الأنعام)

تنقسم أعمال البشر إلى قسمين رئيسيين، يتبع لهما ما يفصِّلهما من أفعال وأقوال، وهذان القسمان هما:

الممارسات الوظيفية

 

والممارسات الحيوية.

 

يُعتبر ممارسةً وظيفية ًكلُّ عمل تعبدي يراد بإقامته القرب من الله الخالق الرازق وتحصيلُ رضاه، كالشهادتين والصلاة والصدقة وبر الوالدين والحج والصوم وصلة الرحم والإحسان إلى الجار وتلاوة القرآن والصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم...إلخ، بينما تكون الممارسات الحيوية ما عدا ذلك من أقوال وأفعال سائرة في عادات الناس الخاصة والعامة. ومن الجلي أن القسم الأول (الممارسات الوظيفية) هو شأن الإنسان المسؤول (البالغ سنَّ الرشد العاقل)، في حين أن القسم الثاني (الممارسات الحيوية) شأن لجميع البشر، بل وتشترك معهم سائر الحيوانات في معظمها (كالتناسل وأسبابه، واستفراغ البدن من الزوائد...إلخ.).

 

والإنسان المسؤول مطالب بأن «يُوَظِّفَ» جميع أعماله لصالح حياته الحقيقية (﴿وّإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت/64])، وهذا التوظيف صادق على الممارسات الوظيفية بالأصل، ولا إشكال، لكن يمكن أن يصدق أيضا على الممارسات الحيوية، وعندما تكون جميع ممارسات الإنسان المسؤول وظيفية في جوهرها فإنه ولا شك يحقق المقصد الوجودي في صيرورته «عبدا لله اختيارا كما هو عبده اضطرارا». وهذا المعنى هو ما أُمِرَ نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصدع به في آية الأنعام/162: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ﴾.

 

قبل الوصول إلى مقاربتي لإعمال هذه الآية التوحيدية الكريمة في مختلف مظاهر الحياة العملية، لا بد أن أطالع بشأنها بيان الراسخين في العلم؛ لأن كلام رب العالمين لا يؤتى للتفسير إلا من باب منبع الرسوخ هذا.. وهكذا فلئن كانت الصلاة معروفة عند ممارستها من لدن الأوَّابين، فإن كلمة ﴿وَنُسُكِي﴾ وردت لها معاني العبادة، وذبح البهائم، والحج... بترجيح معنى العبادة مطلقا كما لابن جزي الأندلسي المالكي وغيره. أما ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ فقالوا فيه: «أي أعمالي في حين حياتي وعند موتي»، ثم وجهوا سائر الآية إلى معنى الإخلاص لله ونفي جميع أنواع الشرك مهما صغر.

 

من هنا وحب التذكير بأن الله تعالى لا يقبل:

 

شريكا معه في عبادة، ومقتضى ذلك أن يترك المشرك به غيرَه وما أشرك به، كما في الصحيح؛

 

 عملا تعبديا خارج نطاق رسالته المفعَّلة منذ مبعث رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومؤدى هذا أن جميع أنواع التدين من خارج هذه الرسالة الخاتمة باطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وحتى ولو زوَّقوه بالشعار (الإبراهيمي) كما يدعي البعض: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران/85]؛

 

 بدعةً في الدين، من صوم أو صلاة وما شابه ذلك، لم تثبت عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الصحيح أيضا.

 

وفي مقابل اللا قبول القطعي هذا، فإن رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى/25]، ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ [الشورى/26].

 

في إطار استجابة المؤمنين هذه، والتي تتموقع فيها سعادة الإنسان حصرا، وددت أن أقترح على الملتزم طريقة جديدة تمكنه، إن هو استوعبها وأعملها بصدق وانتباه، من صرف جميع أعماله التعبدية والعادية، أو لنقل كما تم التعبير عنه بألفاظ: الممارسة الوظيفية والحيوية، لصرف جميع تلك الأعمال لتكون كلُّها عبادة خالصة لله عز وجل. إن الطريقة العملية التي أقترح تتمثل في اتباع منهجية تعرف ب‘‘القضايا الخمس‘‘، المخللة بأسئلتها الأربعة والمترقية نحو الباعث الأول على القيام بممارسة ما – خاصة إذا كانت حيوية/عادية، فإذا وصل المتسائل إلى الباعث الخامس الأصلي تصاعديًّا وصل إلى المقصد النهائي وهو: «عبادة الله وحده لا شريك له مخلصا له الدين».

 

ولكي أقرب هذه الطريقة المقترحة للأفهام أتقدم بالمثال التطبيقي التالي.

 

القضية (1): أنا أستعمل الهاتف الذكي.

 

-لما ذا أستعمل الهاتف الذكي؟

 

القضية (2): أستعمل الهاتف الذكي؛ لكي يكون لديَّ اتصال إعلامي بالكون من حولي.

 

-لما ذا أطلب الاتصال الإعلامي بالكون من حولي؟

 

القضية (3): أطلب الاتصال الإعلامي بالكون من حولي؛ لأرى تجليات صنع الخالق جل وعلا في خلقه.

 

-لما ذا أتطلع لتجليات صنع الخالق جل وعلا في خلقه؟

 

 القضية (4): أتطلع لتجليات صنع الخالق جل وعلا في خلقه؛ ليطمئنَّ قلبي ويحصل لديّ اليقين عينا -بعد أن حصل علما- بقدرة الله وعظمته ووحدانيته.

 

-لما ذا أريد اطمئنان القلب وحصول اليقين العيني بقدرة الله وعظمته ووحدانيته؟

 

القضية (5): أريد اطمئنان القلب وحصول اليقين العيني بقدرة الله وعظمته ووحدانيته؛ لأعبد الله مخلصا له الدين.

 

إن هذه القضية الخامسة، جوابا على السؤال الرابع، هي قضية القضايا؛ لأنها ترمي إلى موقع المراقبة في كل شيئ وما أجله من مقام!! ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾ [النازعات/40-41].

 

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله محمد الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.